حلَّقت الطائرةُ وارتفعتْ رُويدًا رُويدًا لتأخذنا لرحلة العمر: الحج. يلفُّها السحابُ الأبيضُ، ويُحيطُ بها، لا لونَ لليومِ غيرَ الأبيضِ: السحابِ، والطائرةِ، وما بداخلِ الطائرةِ. الجميعُ يرتدي الثيابَ البيضاءَ، ويشرقُ مُحيَّاهُ بالنورِ الوضّاءِ.
يُنادي طاقمُ الطائرةِ: الآنَ نمرُّ بالميقاتِ. تتهلَّلُ الوجوهُ، ويعتدلُ الجالسون، ويرفعون أيديهم وأصواتهم بالتلبيةِ: (لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيْك، لبَّيْكَ لا شريكَ لك لبَّيْك، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك)، (لبَّيْكَ اللهمَّ حَجًّا، لبَّيْكَ اللهمَّ عُمرةً وحجًّا).
تتعالى الأصواتُ، وتتصاعدُ، وكأنها تخترقُ السحابَ الأبيضَ، لتُحلِّقَ في ملكوتِ السماواتِ: (لبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ كلُّه في يديْكَ، والشرُّ ليس إليكَ، أنا بكَ وإليكَ، تبارَكْتَ وتعالَيْتَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ).
كلٌّ مِنَّا يحملُ دعواتٍ خبَّأها على مرِّ السنين، واليومَ يومُ الدعاءِ، يومُ تفريجِ الكروبِ، وانشراحِ الصدورِ. يتساوى الجميعُ، لا نفكِّرُ في مكانٍ، ولا طعامٍ، ولا تعبٍ، ولا نَصَبٍ، تتلاشى كلُّ المادِّيّاتِ. كلُّ الطُّرُقِ سواءٌ، المُهِمُّ أن تصلَ بنا إلى الرَّحمنِ. نتخفَّفُ من الدُّيونِ، نَصْفَحُ عن الأنامِ، نُطَهِّرُ قلوبَنا قبلَ اللِّقاءِ. فاللهمَّ ارزقْنا القلبَ السليمَ، لا كِبْرَ، لا عُجْبَ، لا غُرورَ، ولا استكبارَ، لا رَفَثَ، ولا فُسوقَ، ولا جِدالَ في الحجِّ.
كلُّ فوجٍ يلتزمُ بقائدِه: نِظامٌ وتنظيمٌ وأُلفةٌ ووِفاقٌ. نخافُ من التِّيهِ: تيهِ الأجسادِ، وتِيهِ الأرواحِ. روحي التي بين جَنْبَيَّ كمْ حادَتْ، وكمْ ضاعَتْ، وكمْ غَفَلَتْ وتَناسَتْ. واليومَ يومُ المغفرةِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: “مَن حَجَّ للهِ، فلمْ يَرْفُثْ، ولمْ يَفْسُقْ، رجَعَ كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”.
تَحمِلُنا الطائرةُ إلى البلدِ الحرامِ، تكادُ القلوبُ تَقْفِزُ فَرَحًا وشَوقًا وطَرَبًا. كيف يكونُ اللقاءُ؟ أوَّلُ لقاءٍ ترى فيه الكعبةَ لأولِ مرَّةٍ!
ولا شكَّ أنَّ الحجَّ أصبحَ أيسرَ ممَّا كانَ، فقدْ كانوا يسافرونَ على الجمالِ، ويتعرَّضونَ للمشاقِّ والتَّعبِ، والمشيِ في الصحاري القَفَارِ. ومع ذلك، نجدُ مِنَ السَّلَفِ مَن حَجَّ أربعينَ وستينَ ومائةَ حجَّةٍ، ومنهم مَن حَجَّ ماشيًا يقطعُ القفَارَ والصَّحراءَ.
قال عليُّ بنُ الموفَّقِ: (حججتُ ستينَ حَجَّةً، فلمَّا كانَ بعدَ ذلك، جلستُ في الحِجْرِ، أُفكِّرُ في حالي وكثرةِ تَرَدُّدي إلى ذلك المكانِ، ولا أدري هل قُبِلَ منِّي حجِّي أم رُدَّ! ثمَّ نِمْتُ، فرأيتُ في منامي قائلاً يقولُ لي: (هلْ تدعو إلى بيتِك إلَّا منْ تُحبُّ)؟ قال: فاستيقظتُ وقدْ سَرَى عنِّي).
ما أروعَ اللقاءَ! الكعبةُ المشرفةُ المُهَيبةُ! وكأنَّكَ ترى البيتَ المعمورَ فوقَها، يطوفُ به ملائكةُ الرحمنِ. شرَّفنا اللهُ بالطوافِ حولَ بيتِهِ. “اللهمَّ زِدْ هذا البيتَ تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا، وزِدْ مَن شرَّفَه وكرَّمَه وعظَّمَه ممَّن حجَّه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبِرًّا”.
نستلمُ الحجرَ الأسودَ، ونُشيرُ إليه، ونبدأُ الطوافَ، هذا الحجرُ الذي سوَّدتْهُ ذنوبُ العبادِ، فقدْ نزلَ من الجنَّةِ أبيضَ من اللَّبَنِ. عن ابنِ عبَّاسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: “نزلَ الحجرُ الأسودُ من الجنَّةِ وهو أشدُّ بياضًا من اللَّبَنِ، فسودتْهُ خطايا بني آدم” رواه الترمذي (٨٧٧).
والحجرُ الأسودُ يشهدُ على من استلمَه: عن ابنِ عبَّاسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -في الحجرِ-: “واللهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ يومَ القيامةِ، له عينانِ يُبصِرُ بهما، ولسانٌ ينطقُ به، يشهدُ على مَن استلمَه بحقٍّ” رواه الترمذي (٩٦١) وابن ماجه (٢٩٤٤)، وحسَّنه الترمذي، وقوَّاه ابنُ حجرٍ في فتح الباري (٣/٤٦٢). والطوافُ عبادةٌ لا تكونُ إلَّا في الحجِّ، فمَن تيسَّر له الإكثارُ منها، فليُكْثِرْ؛ فإنَّها لا تتكرَّرُ إلَّا في هذا المكانِ الشَّريفِ.
استجابَ اللهُ لدعاءِ نبيِّه، وجعلَ أفئدةً من الناسِ تَهْوي إليه، فها هم أفواجُ الحُجَّاجِ يأتونَ من كلِّ فَجٍّ عميقٍ. صلَّيْنا رَكعتينِ عند مقامِ إبراهيمَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. وتوجَّهْنا إلى ماءِ زمزمَ، شربْنا وتَضَلَّعْنا. خبَّأتُ دعواتٍ كثيرةً، تذكَّرتُ فيها العلماءَ الذين شربوا ماءَ زمزمَ بنيَّةِ العلمِ، ومنهم مَن شربَ بنيَّةِ الحفظِ، وبنيَّةِ التحديثِ، وبنيَّةِ التصنيفِ، ومنهم مَن شربَ بنيَّةِ الشفاءِ وبنيَّةِ العملِ، وكثيرٌ هم العلماءُ الذين تضلَّعوا بماءِ زمزمَ، فاستجابَ اللهُ دعاءَهم.
توجَّهْنا إلى القِبْلةِ. رَدِّدْ معي: (بسمِ اللهِ)، ثمَّ تَنَفَّسْ ثلاثًا حتى تتضَلَّعَ، والتَّضَلُّعُ هو شدَّةُ الارتواءِ من ماءِ زمزمَ، فتشربَ حتى يمتلئَ جوفُك ويصلَ إلى أضلاعِك، وقلْ: (اللهمَّ إنِّي أسألُكَ علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كلِّ داءٍ). فاللهمَّ تقبَّلْ حجَّتَنا، وأجِبْ دعاءَنا.