هناك أناس يحيون بوهم الكمال، ليس الكمال في أنفسهم؛ إنما هؤلاء الذين أقصدهم يبحثون عن الكمال فيمن حولهم وما حولهم، حتى أنهم لفرط انشغالهم بعيوب غيرهم ونقصه، لا يشعرون بعيوبهم ولا يرونها أبداً!
فإن رأوا أمراً عظيماً؛ بحثوا عما ينقصه وسلطوا أعينهم وألسنتهم عليه؛ بل لعل أعينهم التقطت ذاك العيب ولم تبصر مئات المحاسن. ولا إشكال لو كان الهدف بالفعل هو السعي لجبر الكسر، وإتمام النقص، وإصلاح العيب؛ وإنما العيب كل العيب إذا كان المقصود هو نشر الإحباط وزعزعة الثقة وهدم البناء كاملاً لمجرد خطأ أو عيب. لو أن الطريقة المتبعة كانت إغماض العين عن الحسنات وفتحها على اتساعها للعيوب، العيب كل العيب أن يكون ما يحسنه الشخص هو النقض لا النقد.
قديماً كان يثير استغرابي حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ” رواه البخاري ومسلم.
ما أثار استغرابي هو أن يترك الناس كل هذا البناء المهيب، ويعلقون على لبنة ناقصة، لبنة واحدة لا تشكل في البناء كله بالصورة المادية عشر عشر معشار البناء، ومع ذلك انتبه الناس لها وعلقوا عليها؛ ولكن الآن أشهد أنه اللهم نعم، هذا طبع البشر ولن يتغير. وليست هنا المشكلة؛ إنما المشكلة أن أغلب الناس حين يعلق على اللبنة يكون هدفه إسقاط المبنى كله؛ بل وأحياناً إسقاط صاحبه، ولو أنه علق لينتبه صاحب البناء ويصلحه لكان خيراً، ولو أنه سعى لمساعدته لإتمام الناقص لكان خيراً وأهدى سبيلاً.
تجد ذلك النموذج هو هو في العلاقات، وفي المعاملات، وفي نظرته لكل شيء من حوله، فقد يكون زوجاً مع زوجته، أو زوجة مع زوجها، أو صديق مع صديقه… وهكذا.
تجده حين يجد أخاه يسد ثغراً ولو بورقة وهي كل ما يملك، يسخر منه ويعنفه ويقول لو كانت خشبة، ولو سدها بخشبة يسخر منه ويعنفه ويقول لو كانت حديداً، وإن سدها بحديد لقال لو كان أصلب منه، ثم تجده هو هو يمضي إلى شأنه أو إلى لهوه غير محاول حتى مساعدة من كان ينظّر عليه حتى لو بسد ثغر آخر.
يا أيها الباحث عن الكمال في دنيا ليس أحد خصالها الكمال؛ بل هي دار نقص ونقصان، جُبلت على النقص في كل ما تحويه؛ استفق! استفق قبل أن تضيع عمرك يا مسكين باحثاً بلا هداية، مفتشاً عن غير موجود. استدرك وألزم ثغراً أو ساعد أخاك في سد ثغره، أو حتى اتركه وشأنه. اعقل وابصر عيوبك وأخطاءك ونقصك، قبل أن تنعت الناس جميعاً بالنقص والنقائص، ولربما كنت أنت أشد عيباً، اعقل الأمور قبل أن ينفض الجميع من حولك.
يعينك على ذلك، أن تحمل نفسك على رؤية الحسنات في كل شيء، أن تلتمس الخير في كل أمر، أن تحسن الظن، أن ترصد الإيجابيات، أن تغفر بالحسنات السيئات، أن تبصر الجمال.
وأفضل علاج لهذه الحالة حين تطغى على إنسان، هو العمل لدينه وأمته. الانشغال بأمر مفيد، ألا يترك نفسه بطالاً، أن يصرف نفسه عن الانشغال بالناس ومراقبتهم إلى الإنشغال بنفسه ومراقبتها، أن يتهم نفسه أولاً، أن يسعى لإصلاح نفسه وإصلاح قلبه، وأن ينخرط في عمل لنصرة دينه وأمته؛ أما الفراغ والبطالة فمهلكان له ولمن حوله.
ونصيحتي للساعي في مرضاة الله: لا تلتفت.
لا يقعدنك هجاء هاجٍ، ولا نقد ناقد، ولا تنظير منظر؛ بل امض في طريقك دون التفات، يكفيك نظر الله لك، يكفيك سعيك لرضا خالقك وحرصك عليه والتماس ما يقربك منه والبعد عن كل ما لا يرضاه. لا تلتفت لقاطع ولا حاسد ولا مبغض ولا متنطع ولا مثبط.
لعلك فطنت قبل أن الطريق إلى الله عز وجل خاصة لن يكون مفروشاً بالورود؛ بل في كل خطوة متربصين،
ولعلك أدركت أنه طريق لم يصفُ ولم يسلم لأحد، ولولا معرفة أن نهايته جنة عرضها السماوات والأرض ما صمد عليه أحد.
ولك في سير الأنبياء والمرسلين والصالحين السلوى، وأعظم زاد هو القرب من الله عز وجل بكثرة النوافل، ولا تبرح الوحي أبداً؛ فذاك الدواء والشفاء والنور الحادي في ظلمات الحياة.