(بين الضفدع المغلي والفأر الأبيض)

|

(بين الضفدع المغلي والفأر الأبيض)

كيف تصنع الرسوم المتحركة أبشع الأمراض؟

واحدة من أشهر التجارب النفسية في المدرسة السلوكية؛ حيث قام عالمان بوضع فأر أبيض علىٰ مقربة من طفل صغير يُدعىٰ “ألبرت”، كان قد أُدخل المستشفىٰ؛ للعلاج من مرض غير نفسي.

وببراءة وتلقائية مد الصغير يده يتحسس ذلك الحيوان الصغير الناصع البياض.. عندئذ؛ قاموا بإصدار صوت مزعج من خلف الطفل، جعله يصرخ فزعًا ورهبة!

وتكررت التجربة عدة مرات، وفي كل مرة يوضع الفأر الأبيض قريبًا من “ألبرت”؛ يَصدر الصوت المزعج المفاجئ؛ فيؤدي إلىٰ فزع الطفل وصراخه، ثم جاءت الخطوة الثانية من التجربة؛ وذلك بوضع الفأر الأبيض قريبًا من الطفل، ولكن بدون إحداث ذلك الصوت المزعج..
فماذا كانت النتيجة؟

لقد ظل الطفل يصرخ بشدة في كل مرة يرىٰ فيها الفأر الأبيض، حتىٰ وهو علىٰ بُعد أمتار منه!
وبعد أن كان يتحسسه بأنامله؛ أصبح في حالة خوف وهلع شديد لمجرد رؤيته من بعيد!
والشيء الغريب أنه قد حدث للطفل بعد ذلك ما يسمىٰ بـ “ظاهرة التعميم”؛ فقد أصبح الطفل يخاف ويفزع من أي شيء يشبه –من قريب أو بعيد– ذلك الفأر الأبيض.

و(الضفدع المغلي) هو مصطلح يشير إلىٰ قصة شائعة تقول بأن الضفدع سوف يقفز فورًا عندما يوضع في ماء حار، بينما إذا وضِع في الماء وهو معتدل الحرارة ثم تم تسخينه ببطء؛ فإن الضفدع لن يقفز، وسيبقىٰ في الماء، حتىٰ بعدما يصير حارًا جدًا؛ لأنه لن يشعر بالخطر التدريجي الحاصل؛ وبذلك يموت عندما تبلغ درجة حرارة الماء قدرًا مميتًا!

هذه النظرية تذكر في التعابير المجازية، والجوهر منها؛ هو أن الناس يجب عليهم أن يكونوا حذرين من التغييرات التدريجية السلبية التي تحصل لهم؛ حتىٰ لا يعانوا من خسائر مفجعة بعد فوات الأوان.

من هنا؛ تؤكد نظريات التعلم وعلم النفس السلوكي؛ أن المرض النفسي، والسلوك المضطرب- هو سلوك يمكن اكتسابه..
وهذان المثالان بالذات يلخصان أهم ما تحتاجه لصناعة أي مرض عضال، ببساطة:

(التدرج وصنع روابط)

تَبَنّـىٰ الإعلام عمومًا، والرسوم المتحركة تحديدًا تنفيذ هذه النظريات بكل احترافية، ولم يتركوا فكرة قبيحة أو سلوكًا مضطربًا إلا ومرروه من خلال هذه الاستراتيجيات وأدواتها بكل انسيابية.

أولًا: الربط وأدواته:

وهو إكساب مثيرين مختلفين نفس الاستجابة؛ فالفأر الأبيض كان “مثير” يحدث استجابة لطيفة عند الطفل، والصوت المزعج “مثير” يحدث استجابة مفزعة، وفي النهاية؛ اكتسب الفأر نفس استجابة المثير المزعج!
وإذا عكسنا التجربة؛ فيمكننا أيضًا أكساب مثير مزعج استجابة لطيفة، من خلال إرفاقه مع مثير مقبول وجميل!
ومن أهم الأدوات التي استخدمتها الرسوم المتحركة لتكوين روابط إيجابية مع مثيرات غاية في القبح- هو كونها أساسًا “رسومًا”!

١- (الرسوم):

كثير من متابعي الأنمي لا يرضىٰ وصفه بالكرتون؛ بحجة أن الكرتون للأطفال، والأنمي ليس كذلك، وهذا بسبب حقيقة أن الرسوم المتحركة عمومًا في أذهان المجتمعات تشبه عالم الأطفال أكثر؛ فتحويل القصص لرسوم؛ يجعل المخ يُرْخِي دفاعاته، ويُهَوِّن من أثرها علىٰ نفسه؛ فمشاهدة رسمة لفتاة متبرجة غير حقيقية يبدو أهون كثيرًا من مشاهدة امراة حقيقية بنفس التبرج؛ من كشفٍ للشعر، وضيق الملابس، وقس علىْ ذلك كل رذيلة!

٢- (الجاذبية):

ومعظمها ليست مجرد رسوم، بل غاية في إظهار الأجساد بمثالية مفرطة؛ عيون جذابة، أجساد متناسقة، شعر ذو قصات وألوان مختلفة، وجاذبية تركيب الشخصيات ودوافعها.

٣- (الكوميديا):

وهي: (صناعة الإضحاك)؛ فقديمًا لم يكن يمتهن أحد هذه الصنعة، بل كان المزاح سجية عند كثير من الناس، يصدر منهم في مواقف معينة، وأتت الكوميديا وحولت هذا السلوك إلىٰ صنعة..

ومنتشر في المجتمعات أن كل ما يُستحىٰ من قوله أو فعله بالجد؛ يُقال ويُفعل بالهزل والمزاح، ويجعله ذلك أخف وطئًا في النفوس؛ فكلمة: “أنا فقط أمزح معك”؛ كلمة ماحية لكل ذلة، رغم أن هناك أمور غير قابلة للاستهزاء؛ قال تعالىٰ:{وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَیَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَایَـٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ}..
فمن أهم مخاطر الكوميديا:

  • الطعن في الدين والعقيدة، والاستهانة بأهم الرموز؛ بدءًا من علماء الدين، ثم الرسل، والأنبياء، والملائكة، وصولا للذات الإلهية؛ في سياقات مضحكة؛ حتىٰ يجعل المتابع يعتاد علىٰ سماع ورؤية هذه الرموز في غير موضع تقديس؛ مثل: (الجنة، والنار، واليوم الآخر)؛ فتضعف هيبتهم في نفسه مع مرور الوقت!
  • التصالح النفسي مع الظواهر السلبية؛ فمثلًا: يأتون بشخصيات مريضة ومعتلة نفسيًا واجتماعيًا، ويجعلونها شخصيات ظريفة ومضحكة، ونحن في خطاب كوميدي؛ فالشخصية المزعجة ستكون الشخصية التي لا تُضحك، وهي الشخصية المستقيمة؛ فيحدث تصالح نفسي مع الظواهر السلبية؛ فقط لأنها ترتبط في مخك بأحداث مضحكة!
    وأعمال الرسوم المتحركة مليئة بإدراج الضحك في مواقف تُروج بشدة للفسق؛ حتىٰ يعتادها المشاهد؛ مثل: المواقف المحرجة بين الفتيان والفتيات، وكلها عن التعري، ودخول الأشخاص علىْ بعضهم البعض وهم في وضعيات مخلة؛ بطابع كوميدي..

أو الملامسة؛ بأن تسقط الفتاة بين ذراعي البطل، أو تتعلق به في موقف كوميدي أيضًا؛ بسبب خوفها من شيء ما..
أو حدوث خلط، وتنطق الشخصية كلمات بذيئة (جنسية) وحب، وهيام؛ في موقف جد؛ فيتم إظهاره كموقف مضحك.

  • بالإضافة إلىٰ التركيز علىٰ الرجال المخنثين المتشبهين بالنساء، وإعطاءهم شخصيات مرحة خفيفة الدم؛ ولأن الضحك شعور إيجابي؛ يربطونه بهذه الظاهرة السلبية المقرفة، فما بالك إذا كانت هذه العملية عن طريق الرسوم!

فكلمة كرتون ذات نفسها -كما بينا في مقالات سابقة- أنها انتشرت مع الرسم الساخر لأحداث واقعية، سياسية واجتماعية (الكاراكاتير)؛ فالسخرية والتهكم سواء في أسلوب الرسم، أو في طريقة عرض القصة؛ يجعلها أسرع تقبلًا في النفوس؛ مهما كان مضمونها، بالاضافة إلىٰ أن رسم الشخصيات في تصميمات ساخرة ومضحكة- يشوه الحس السليم، ويجعل الأطفال والكبار -علىٰ حد سواء- مستعدين لتقبل هذا التلوث البصري علىٰ أرض الواقع!

٤- (التشويق):


هو شعور من الفرح والإثارة، مختلط مع الخوف والتوتر والقلق.
يأتي الشعور من مصدر لا يمكن التنبؤ به (مصدر غامض ومثير)..
أو: هو مزيج من الترقب وعدم اليقين في التعامل مع غموض المستقبل..

ويرتبط هذا الشعور بالفضول، وهو سمة إنسانية أساسية؛ تدفعنا للبحث عن معلومات وتجارب جديدة..
الفضول: هو ظاهرة نفسية معقدة، تمت دراستها علىٰ نطاق واسع من قبل الباحثين.
الفضول في جوهره: هو الرغبة في المعرفة، التي يقودها شعور بعدم اليقين أو الغموض.

عندما نواجه شيئًا لا يتناسب تمامًا مع معرفتنا أو خبرتنا الحالية؛ فإن أدمغتنا مبرمجة للبحث عن مزيد من المعلومات؛ من أجل حل حالة عدم اليقين هذه، ويعد سرد القصص من أقوىٰ الأدوات لجذب الجماهير في سياق التشويق، وإشراك المشاهدين في خلق الاهتمام والترقب، وكذلك التأثير العاطفي علىٰ قوة التشويق؛ فعند خلق علاقة عاطفية مع الجمهور؛ يصبحون منغمسين عاطفيًا في الشخصيات والحبكة، وحينها؛ يمكن تمرير الأفكار والممارسات الفاسدة للمتابع المفتون بكل سهولة

عشرات الشخصيات ذات السلوكيات غير السوية (الغرور، والعجرفة، واحتقار الخصوم، والتكبر) تم تقبلها، بل ونالت شهرة أكبر من أيطال القصة أنفسهم؛ بسبب عامل التشويق والإثارة في الشخصية!

وكذلك تم الاحتفاء بأعمال كاملة مليئة بالبذاءة والتعري؛ فقط لأن القصة شيقة، وتحكي عن موضوع لاعلاقة له بالفواحش؛ مثل: (الطبخ)، وتُحشر تلك المشاهد عنوة دون أي داعٍ قصصيّ سوىٰ نشر الخلاعة!
ويصبر المشاهد علىٰ كل تلك المشاهد؛ بحجة الرغبة في متابعة القصة المثيرة!
قال تعالىٰ: {إِنَّ ٱلَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ ٱلۡفَـٰحِشَةُ فِی ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ فِي ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡآخِرَةِۚ وَالله یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}.

وسيرًا وراء الفضول والتشويق؛ تنجذب شريحة كبيرة لأعمال الرعب، ومن أهم العوامل التي تجعل تلك الأعمال رائجة- هو تحفيز الرعب؛ لاستجابة القتال أو الطيران، والتي تأتي مع زيادة في الأدرينالين، والإندورفين، والدوبامين..

يمكن للدماغ بعد ذلك معالجة البيئة المحيطة، واستنتاج أن التجربة ليست تهديدًا حقيقيًا؛
هذه المعرفة بالسلامة الشخصية هي أحد الأسباب التي تجعل محبي الرعب يشاهدون أفلام الرعب بشكل معتاد.
وكذلك تعطي هذه الأعمال شكلًا من أشكال الإحساس بالتحكم، أي: (إذا أصبحت القصة مرهقة بأي شكل من الأشكال؛ يمكنني ببساطة التوقف وحسب)؛ مما يجعل المتابع يشعر بأنه
أعلىٰ من أن يتم استغلاله، بل هو المتحكم في المتابعة بإرادته!

وفي وسط كل هذه المشاعر الممتعة؛ يتم التطبيع بكل جراءة مع العنف (من ضرب محرم علىٰ الوجوه، وتشويه، وتمثيل بالجثث، والقتل بكل أشكاله، والمشاهد المقززة؛ من تقطيع الأعضاء وتمزيقها، وأكل لحوم البشر)؛ يجد المتابع نفسه متقبلًا لكل هذا وأكثر، تحت تأثير التشويق والإثارة؛ مشوها لحواسه بيديه؛ فالتعرض لهذه القذارات واعتيادها تحت أي عذر أو مسمىٰ كان- ما هو إلا إجرام في حق النفس، ستسأل عنه يوم القيامة، وستلقىٰ آثاره عاجلة في الدنيا قبل الآخرة؛ قال تعالىٰ: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤئكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـؤولࣰا}

ثانيًا: التدرج:

التنوع الكبير في تصنيفات الرسوم المتحركة عمومًا، والأنمي بالذات؛ يمثل تدرجًا ممتازًا لتنقل المتابع من أبسط أنواع الفجور إلىٰ أشدها، وبدون الشعور بالذنب إلا متأخرًا؛ فذاك الضفدع قيل أنه عند تجربة تلك القصة حقيقةً؛ قام بالقفز عند اشتداد درجة الحرارة، ونجىٰ من الموت!

وكل التائبين الذي دفعهم للقفز من ذلك العالم- هو هذا الإحساس بدنو خطر جسيم، والبعض حتىٰ بعد توقفه عن المتابعة- ما زال لا يستطيع التخلص من آثاره العالقة بنفسه؛ فالعاقل من انتبه مبكرًا، ونجىٰ بدينه، وسلامة صدره.

بالإضافة لتمرير الأفكار السامة؛ من خلال مواقف بسيطة، مثلًا: أن تكون كل شخصيات العمل سوية، وشخصية واحدة معتلة؛ فيعتادها المشاهد، ويألفها، ويصير مستعدًا لمشاهدة عملٍ كلُّ شخصياته مريضة ومنحطة!

الكل يشاهد، لا أريد أن أكون غريبًا بين أقراني!

مما ترسخ في عقول الناس؛ ارتباط شيوع الأمر عندهم، وانتشاره بين الناس، وفعلهم إياه- بإباحته، ولو كان حرامًا؛ فمتىٰ ما كان منتشرًا؛ استساغه الناس، وسهل عليهم ارتكابه؛ فكما يقولون: “حشر مع الناس عيد”، هكذا ترسخت فكرة الأكثرية، وجعلها مقياسًا بين الناس.

أنت كمسلم؛ مقياسك للأمور ليس مرتبطًا بذلك البتة، بل مرتبطًا بالسماء، وبنور الوحي الذي بين يديك؛ فتقيس الأمور، وتسبر صحيحها من سقيمها بميزان الشرع الحكيم؛ الذي كان وسيبقىٰ ما فيه كالشمس وسط النهار، لا تطولها معايير البشر، ولا تستطيع لها تغييرًا.

فهل يا ترىٰ كانت الكثرة يومًا دليلًا علىٰ الصحة في ديننا الحنيف؟

النشرة البريدية الأسبوعية (قريبا)

ستتصمن نشرتنا نصائح طبية وجمالية وتربوية وبعض الوصفات للمطبخ

نشرة البريد

مقالات مشابهة