وما أكثر تكرار هذي الحال، حين يستيقظ أحدنا ويخطط لكثير من الأعمال الصالحة التي يشده إليها ثوابها ورجاء ما عند الله فيها، ثم ما يلبث حتى تهدِم تلك الترتيبات والخُطط سُرعة الأوقات التي تمضي، والبركة الممحوقة في الأعمار، والوتيرة السريعة التي يسير بها الزمان؛ فيضيق بذلك يومه عن كثير من أعماله المرسومة، ويدفعه للتخلي عنها وتقديم غيرها بما يقتضيه الحال.
فتزداد الحسرة وشعور الإخفاق لدى المسلم الحريص على فعل الخيرات؛ لعلمه أن ما فات لن يعود أبداً، ولكن كما قال من عرف: (ليس كل ما يتمناه المرء يدركه)، فقد تعجز نفس المرء عن بلوغ مناه أو يُعجزه أمر خارجٌ عنه؛ إلا أن شريعة الإسلام العظيمة القائمة على مبدأ الفضل والثواب من الله، وسّعت بركة الأعمال وثوابها على المسلم في يومه، فمكنته من أن يعيش عمراً آخر مليئاً بالأجور داخل عمره المحدود، فكثيراً منها يمكن إدراكه برحمة الله وسعة فضله ومَنّه، ونيل الأجور العظيمة المترتبة على تلك الأعمال اليسيرة والأشغال المعتادة يومياً بتعدد النيات فيها والتفطن لذلك قبل الشروع بعملها.
فبتعدد النيات للعمل الواحد تتعدد الأجور، وتزداد الأعمار بذلك ويُدرَك الخير الفائت بقصر الأوقات وسرعة انقضائها، وهذا الفعل واردٌ عن سلفنا الصالح بتعديدهم لنواياهم في العبادات والأعمال المعتادة لدى الواحد منهم، فقد ذكر ابن قدامة -رحمه الله- في مختصر منهاج القاصدين ما يدل على ذلك فقال: (قال بعض السلف: إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية، وحتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات الدين.
فمن قصد من الأكل التقوي على العبادة، ومن النكاح تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصل إلى ولد يعبد الله بعده، أثيب على ذلك كله، ولا تحتقر شيئاً من حركاتك وكلماتك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وصحح قبل أن تفعل ما تفعله، وانظر في نيتك فيما تتركه أيضاً).
فانظر للنية وأثرها قبولاً للعمل وبركةً فيه، فكم من عمل يسير جَرَ لصاحبه جبال الحسنات لتعدد نياته وحُسن قصده فيه!
وقد أشار لمثل هذا سيدنا معاذ -رضي الله عنه- حين قال مجيباً من سأله عن كيفية قرأته القرآن فقال: (أنامُ أول اللَّيل، فأقومُ وقد قَضيتُ جُزئِي من النوم، فأقرأُ ما كتبَ اللَّهُ لي، فأحتسبُ نَومَتي كما أحتَسبُ قَومَتي). فلله هم كيف بارك الاحتساب حياتهم وأعمالهم على بركتها، وهذي لعمري تجارة لا يفطن لها الكثير منا خلال يومه ويصرف الشيطان ذهنه عنها.
فاحتساب العمل لله والإخلاص في ذلك وتعدد نيات العبد، فيه باب لا يلجه إلا الموفقون من عباد الله الذين علموا أن أعمارهم تقصُر عن كثير أعمال ولا تبلغ بهم رضوان الله وجنانه؛ فعددوا نواياهم بصغير العمل وكبيره رغبة في فضل الله ورحمته، فاجتهدوا وسددوا وقاربوا، وزادهم ذلك حرصاً على الأعمال ورغبة فيها وفي أدائها.
ونحن معاشر النساء أحوج ما نكون لذلك؛ فانشغال المرأة بخدمة بيتها وأولادها وأهلها وضيق وقتها بين متطلباتهم وتلبيتها وأعمالها الأخرى التي تخطط لها في يومها؛ أدعى لها لهذه التجارة الرابحة، فكم منا من تنتهي من ذلك لتزيح الهم عنها فقط، ولظنها أنه مجرد واجب وحِمل يقضى بأي حال ونفسية، وهي بفعلها ذلك تُضيع على نفسها أجور كأمثال الجبال تنالها من تقوم بأقل من عملها إن هي احتسبت عند الله ذلك!
فعملها هذا نهر من الحسنات لو تعلم، فبين نوايا متعددة من حُسن تبعل وتربية للأبناء وإحسان لهم، وبر والدين ومعاونتهم، وخدمة ذوي الأرحام من إخوة وأخوات وسد جوعهم بالحلال وتقويتهم بسد احتياجاتهم على الطاعات وكفايتهم مؤونة ذلك؛ ليتفرغوا لحُسن العبادة والقيام بأمور دنياهم وآخرتهم ونفع أمتهم، وغيرها من النوايا التي تتفطن لها كل مسلمة عَلِمت قدر ذلك، وأيقنت أنها تتعامل مع ربها ذو الفضل العظيم وترجو بذلك تجارة لن تبور.
فلنكن ممن تفطن لهذا، فالأعمار قصيرة والذنوب كثيرة إن لم يتداركنا الله برحمته وفضله، ولنقف هنيهة قبل كل عمل نُسدد النية فيه ونخلصها ونعددها بنوايا حسنة يرضاها الله ونحن نستحضر فضل الله علينا بذلك وإكرامه وإنعامه؛ لننل بذلك الأجر الوفير بإذن الله.
ولنعلم أن أعمالنا قليلة لا تصلح للقاء الله وإن تزينت بعيوننا وبانت خلاف ذلك، فقد قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: “لَن يُدخلَ أحدًا عَملُه الجنةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسول اللَّه؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أن يَتغَمدنِي اللَّهُ بفَضلٍ ورَحمة، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا”.