أيتها القلوب النيرة، ويا أرواح النقاء السابحة في فضاء العفة، إن ديننا الحنيف، الذي تضيء شمسُه دروب الحياة، ما جاء إلا ليُسدل على مجتمعاتنا أثواب الحماية والستر، وليُقيم صروح الأسر على أساسٍ متينٍ من المودة والرحمة، وليُنشئ أجيالًا تُزهر فيها بذور الصلاح. ومن بديع حكمته وعميق إدراكه لنفس الإنسان، كانت تلك الضوابط السامية التي أرساها للعلاقة بين الرجال والنساء؛ لا لتُكبِّل الحُريّات كما تهيأ لهم، بل لتُحرِّر القلوب من قيود الشهوات، ولتصون الأعراض من دنس الشبهات، ولتحفظ الأنساب في ربيعٍ نقيٍّ لا تُكدِّره رياح الفتنة.
وعلى ذلك، حذرنا الإسلام من الاختلاط أيّما تحذير، بل وحرّمه؛ فبه يُطفأ وهج الحياء في الأعين، ويُلوِّث صفاء القلوب. ومما قد صار في عصرنا تجمُّع لا تدعوه ضرورة ملحة، بما فيه من تبرُّج يُفشي الزينة، وخلوة تُقسِّي الروح، وحديث لا يزنُه الحياء، ومزاحمة تُبعِد السكينة، وملامسة توقِظ مكامن الفتنة. وليس هذا التحريم قسوةً أو تعسّفًا، حاشا لله! بل هو نابعٌ من رؤيةٍ إسلاميةٍ بديعة، ترى المجتمع كبنيانٍ مرصوص، كلُّ لبنةٍ فيه تُكمِّلُ الأخرى، ولا يكتمل جماله إلا بستر العورات، وحفظ الحُرمات، وبناء القلوب على تقوى الله.
لعلَّ أحدهم يتساءل: “وما السند لهذا التوجّه الرباني؟” فأقول بقلبٍ مطمئن: “إنه سندٌ متينٌ من نورِ القرآن الكريم، وهديِ السُّنةِ النبويةِ الشريفة، وفهم السلف الصالح الذين كانوا نبراسًا لنا في دروب الحياة”.
أولًا: من رياض القرآن الكريم:
- غضُّ البصر، وهذا أمرٌ سامٍ يسبق كلَّ فتنة! فالبصر هو رسول القلب، وبغضِّه تُغلق أبواب الشوق المُحرّم. يقولُ تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾، أيُّ طهرٍ هذا الذي يبتدئُ بنظرة!
- الحجاب الشرعي، وهذا ليس قماشًا يُخفي جسدًا فحسب، بل هو نورٌ يُضيء الروح، وحصنٌ منيعٌ يُحيط بالكرامة. هو سترٌ كاملٌ يمنع إظهار الزينة التي تفتن القلوب، وهو ما يتنافى مع طبيعة الاختلاط الذي غالبًا ما يجرُّ إلى التبرج وإبداء ما لا يحل. قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، فهل نُدرك عظمة هذا الحجاب؟
- النهي عن الخضوع بالقول، قال تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، يا لروعةِ هذا التفصيل! حتى نبرةُ الصوت ينبغي أن تكون وقورًا رصينة، لا تكسرها ليونة تُطمع من في قلبه مرض! وهذا الخطاب ليس حكرًا على نساء النبي ﷺ فحسب، وكما يريد لهُ أن يكون من يُماري مِراءً باطلًا ليُحلّل ما حرّم ﷲ! بل هو موجّه لكل المُسلمات الطاهرات في كل زمانٍ ومكان.
- القرار في البيوت، إن البيت هو مأوى المرأة، ومصدر صلاحها، وعشُّ سعادتها؛ ففيه تُبنى الأجيال، وتُنسج خيوط المودة. قال ﷻ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾، وهذا ليس سجنًا، بل هو حصنٌ، وحمايةٌ لزهرات الحياة من عواصف الخروج والاختلاط، حماية لكن، وخوفًا عليكنّ أيتها القوارير الرقيقة.
- الحجاب كفاصل، قال ﷻ: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾، ويا لطُهر هذه الآية! حتى في السؤال عن متاعٍ أو حاجة، جاء الأمرُ بالسؤالِ من وراءِ حجاب؛ ليكون أطهر للقلوبِ وأبعد عن الشبهات.
ثانيًا: من نور السُّنة النبوية المُطهّرة:
- الخلوة، بوابةُ الشيطان الكبرى! فحين ينفرد رجلٌ بامرأةٍ أجنبية، يكون الشيطان ثالثهما يوسوس ويُغري. وقد قال في ذلك ﷺ: «ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
- التحذير من فتنة النساء، وهذه حقيقة لا يُمكن غضُّ الطرف عنها؛ حيث قال ﷺ: «ما تركتُ بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء»! والاختلاط هو من أعظم أسباب هذه الفتنة، فكيف نُلقي بأنفسنا في لُججها؟
- إبعاد الرجال والنساء في الطرقات، حتى في طريق الحياة اليومي، حرص النبيُّ ﷺ على الفصل بين الجنسين. فقال -بأبي وأمي هو-: «استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق»، ويا له من توجيهٍ دقيقٍ يُعلي من شأن الحياء والوقار!
- منع مزاحمةِ النساء للرجال في المساجد: حتى في أطهرِ بقاع الأرض، أُمرنا بالفصل والتنظيم لضمان الخشوعِ والطهر. فقال ﷺ: «خيرُ صُفوف الرِّجال أولها وشرُّها آخرها، وخيرُ صُفوف النِّساء آخرها وشرُّها أولها»، وهذا من حرصه ﷺ على السُّترة والبُعد عن مواطِن الشُّبهات، وفي ذلك بيان شدّة عناية الشَّرع بالحثِّ على الابتعاد عن محلِّ الافتتان؛ فقد أمر ببعد النِّساء عن الرِّجال لئلَّا يقع محظورٌ شرعي، فحثّ باحتجابهنّ عن الأعيُن؛ لأنه محلُّ الأفضليَّة لهنَّ خوفًا من وقوع فتنة الاختلاط.
ثالثًا: أقوال السلف الصالح وعلماء الأمة:
لقد أدرك السلف الصالح بُعد النظر في هذه التشريعات السامية. فهم قد فهموا أن الشريعة جاءت لتسدَّ الذرائع، والاختلاط غير المنضبط هو ذريعةٌ لا تُفضي إلا إلى الفتنةِ والشرور. وقد كان السلف الصالح يبالغون في الحفاظِ على هذا الفصل الرباني، حتى إنهم كانوا يجعلون مصلى خاصًّا بالنساء في المساجد الطاهرة، ويُشددون في عدمِ اختلاطهنَّ بالرجال؛ صونًا للعفافِ وطهارةً للقلوب.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “يا معشر النساء، لا تدخلن على الرجال إلا بإذنهم”، وقال الإمام القرطبي في تفسير آية الحجاب: “لأنَّ العين رائد القلب، والبصر دليل الشهوة، فإذا لم يرَ لم يشهد”، وقد أكد ابن القيم -رحمه الله- أن تمكين النساء من الاختلاط بالرجال هو أصل كل بلية وشر، ومن أعظم أسباب نزول العقوبات العامة وكثرة الفواحش.
ثم إن التاريخ الإسلامي كله يشهد على أن المجتمع الإسلامي كان مجتمعًا يتميزُ بوجود فصل حكيم بين الجنسين في الأماكن العامة؛ للحفاظ على الطهر والعفاف الذي هو زينةُ الأمة. ولم يكن الاختلاط على النحو الموجود في مجتمعات اليومِ معلومًا أو مألوفًا في عصور الازدهار الإسلامي، بل كان سِمةً للمجتمعات التي غفلت عن هذا المبدأ الأصيل.
أما حكمة تحريم الاختلاط، فهو ليس قيدًا على حرياتنا، بل هو حمايةٌ لأعراضنا، وصيانةٌ لقلوبنا، وطهارةٌ لمجتمعاتنا؛ فهو يهدف إلى تحقيق مصالح عظيمةٍ تتجلى في: حفظ الأعراض وصيانة العفاف، بناء أسر مستقرة، تقليل الفتن والمشاكل الاجتماعية، تعزيز الحياء والأخلاق الفاضلة، وهذا مما يُسهم في تنمية خُلُق الحياء الذي هو زينةُ المرأة وتاجها.
بين الجائز والمُحرّم، ميزان الشريعة يوضح السبيل القويم، ولأن الإسلام دينُ يُسرٍ لا عُسر، فقد ميَّز بين نوعين من الاختلاط:
الاختلاط المُحرّم
وهو اجتماع الرجال والنساء دون التزامٍ بالضوابطِ الشرعية؛ كالمماسة، وعدم الاحتشام، والنظر بشهوة، والعبث واللهو، والاختلاط لغير ضرورة قصوى، وخروج المرأة من بيتها لغير حاجة.
الاختلاط الجائز
وهو ما يكون لحاجةٍ مشروعة أو ضرورية مع الالتزام التام بالضوابط الشرعية؛ كخروج المرأة للصلاة في الجماعة أو العيد، بشرط عدم وجود خلوةٍ أو تبرجٍ أو نظرٍ بشهوة، وأن يكون هناك حائل يحول بينها وبين الرجل تجنّبًا للفتنة، والأولى على المرأة أن تقرّ في بيتها امتثالًا لقولهِ تعالى: ﴿وَقَرنَ في بُيوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجاهِلِيَّةِ الأولى﴾.
فأيتها المسلمات العفيفات، إن تحريم الاختلاط ليس تضييقًا على أنفاسنا، بل هو حمايةٌ لنا من الوقوع في حبائلِ الشيطان ومكائدِه التي تُسدل على الأرواح ظلالًا هائلة من الفتنةِ والضياع. وهو صيانةٌ لأعراضنا التي هي أغلى ما نملك، وحفاظٌ على أسرنا التي هي قوامُ وجودنا، وضمانٌ لاستقامةِ مجتمعنا الذي هو مرآةُ حضارتنا الإسلاميّة.
والاختلاط هو بوابةٌ واسعةٌ للفتن والشهوات، ومصدرٌ للشرور والانحرافات التي نراها ونسمع عنها في مجتمعاتٍ غفلت عن تطبيق حكم الله وشرعه. فلتكن قلوبنا واعية تدرك حجم المسؤولية التي وُكّلت إلينا، وعقولنا مدركة تُبصر العواقب. ولنعد إلى شرع ربنا وسنة نبينا ﷺ؛ ففيهما النجاةُ والسلامة.
وهذه دعوة للمسلمين عامّة، وللمسلمات خاصة، بأن نحرص على بيوتنا، وعلى فتياتنا ونسائنا، وعلى شبابنا ورجالنا؛ لنحميهم من هذه الآفة التي تهددُ نقاء المجتمع المسلم وسلامته، وتسلب منه بهجة العفاف وطُهر الروح.
هذا، ونسأل الله العليَّ العظيم أن يهدينا سواء السبيل، وأن يهبنا التمسك بتعاليم ديننا الحنيف، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والحمد لله ربِّ العالمين.