يعترضُ طريقَ الفتاةِ في الواقع أو المواقع شابٌّ، ظاهرةٌ عليه خصالُ فارسِ أحلامِها، فتصدِّق نظرتها، وتسرحُ بخيالها، وتتطلَّعُ إلى وصلٍ يُدنيه منها، فتُجري بحثًا دقيقًا عنه، وتأتي بسجلِّ حياته، فتُعجبها سيرته، وتكونُ إثباتًا -بزعمها- أنَّه يُناسبُها ومن ضلعه خُلقَت! فتلمسها نشوةَ الحُبِّ، ويطربها بيت الشعر هذا:
«وتأنسُ النّفسَ في نفسٍ توافقها
بالفكرِ والطبع والغايات والقيم»!
وما لها سبيل في البداية، إلَّا أن تُخيِّمَ في صفحته، تُراقبُ جديده، تتلهَّفُ لأخباره، تُعيدُ قراءة منشوارته مرارًا وتكرارًا، بل ولا تفوِّتُ تعليقاته وردوده، وتغضب إن وجدت أنثى في حسابه، وإن كان من الدُعاة إلى الله، ومناشيره تصل إلى كثير، فتعلِّق له تارةً شاكرة ومشجِّعة، وأخرى سائلة ومُستفسرة، وكلُّ ردٍّ يأتي منه تقرؤه بقلبها؛ فيصلها بصورة مُختلفة، وإن تلقاهُ في الواقع، فستحاولُ لفتَ نظره بطريقةٍ ما، وفي حال كان معها في الكُليَّة، ستحضرُ لأجله المُحاضرات، وربما تفكِّر لو تسأله عن المقررات، وإن نظر لها فعيشُها طَلْقٌ، ويومها صافٍ، وقلبها مرتجفٌ، وتبقى على هذه الحال أيَّامًا وأيَّام، تلهو في الحُبِّ، وتنمّيه بأناملها، إلى أن يُتعبَها سكونُ فارسِها، وتصدِّع التساؤلاتُ عقلها، أأمرُّ على باله؟ أفي قلبه فتاة؟ هل لنا وصلٌ في الحلال؟ متى القدر سيجمعنا؟ وقلبها ينقبض أو يتَّسع بين استفهام واستفهام.
فالآن تلاشت النشوة الأولى، وصار بعدها زفرات وأنَّات وعَبرَات وسهر وسهاد، وما عادت المسكينة تركِّز في حياتها، ضعُفَت همَّتها، آل جسدها من الهوى مُتعبٌ، بعد أن كان للمعالي الوصب.
إي، الحُبُّ دون الميثاق الغليظ كاوٍ للقلب، ليس فيه سوى محكم الجهد، كبدٌ حرَّى ودمعٌ حثيث، بدايته حُلوة المذاق ونهايته السُّمُّ الزُّعاف.
فيا أيّتها الفتاة المعذِّبةُ قلبَها، أقصري فإنَّ شفاءَكِ الإقصارُ، من أحلام اليقظة، من تصوِّره ملاكًا؛ مِن جزمكِ بتناغمه معكِ، من افتراضكِ ما لم يتحدَّث به، من تفسيركِ فعاله الطبيعيَّة حُبًّا؛ تيقَّظي… كثيرات غيركِ عشنَ مثل حالتكِ مع مطلِقي لِحاهم ومنمِّقي كلامهم، فندمن على تضييع أعمارِهنَّ في سراب، وبكينَ على أنفسهنَّ التي بُذلت وأُرخصت وتساقطت على دنيٍّ، ونظرن فإذا أيديهنَّ صفر ممَّا عَلِقت به.
فليصحو قلبكِ أخيَّة ويكُن لكِ تَبعًا، ولتدركيه قبل أن يفزعه خبر خِطبته، فأنتِ اجتمعتِ معه في خيالات، ولم يوعدكِ بشيء، كم حسبتِه مُلمِّحًا وهو يجهلكِ وفي غفلةٍ عنكِ، فكُنتِ في هواه:
«كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يُهينها
تُعاني عذاب الموت والطفلُ يلعبُ»!
فِرِّي إلى ربٍّكِ أخيَّتي، وسليه الدواء، وألحِّي في السؤال، واشغلي النَّفس بالعُلا والمكارم، متوقّفةً عن تتبّع أخباره، ولا تستخفّنكِ الأوهام، وليستوعب قلبكِ الواقع، ولتكن نفسكِ أعزّ من غريبٍ مجهول الجانب.