"إِنَّ الرَسولَ لَسَيفٌ يُستَضاءُ بِهِ
مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَهِ مَسلولُ"
ويا لهذا القلب الذي ينبض عشقًا، ويا لهذه الروح التي ترفرف فخرًا؛ كلما لاح في الأفق طيف التاريخ الهجري، وسرت في شرايين الوجدان نفحات أمجاده الخالدة. وهذا، ليس مجرد سرد لأيام خلت، ولا حكايا عن رجال مضوا؛ بل هو نهر متدفق من النور، يروي ظمأ القلوب إلى العزة والكرامة، ووشاح من الجمال الأخاذ ينسجه الإسلام ببهائه ورونقه.
فكم تغنّت القلوب بلياليه الساجيات التي شهدت ميلاد فجر جديد، وكم ابتهجت الأرواح بانبلاج فجره الذي بزغ مبشرًا بنورٍ أضاء الدنيا. ففي كل صفحة من صفحاته، وفي كل محطة من محطاته، تتراءى لنا شمائل العظمة، وتتجلى أبهى صور التضحية والإباء. من غارٍ كان مهدًا للنبوة، إلى صحراء احتضنت هجرة كبرى، ومن بدر شهدت انتصار الحق، إلى فتح أنار ظلمة الجهل؛ كلها فصول في سفر المجد، تُحكى على ألسنة الدهر وتُسطّر بمداد الفخر.
وفي هذا التاريخ العظيم، تتجلى الهجرة النبوية الشريفة كحدث عميق ورحلة قدسية خطت في جبين الدهر نورًا خالدًا. فهي ليست مجرد انتقال لمسافات، بل هي نقطة تحوّل في الوجود البشري، ونبض البداية لزمنٍ سيمتد مجده عبر القرون، وهو أساس تقويمٍ ما زلنا نستهلُّ به أعوامنا، فتتجدد فينا معاني ديننا العظيم.
ولم تكن تلك الخطوة العظيمة وليدة لحظة، بل ثمرة صبر مرير ومعاناة طالت في مكة المكرمة. ثلاث عشرة سنة من دعوة خالصة، واضطهاد قاسٍ، دفع بالنفوس الطاهرة إلى البحث عن أرض يورق فيها الإيمان، ويبزغ فجر الحق بلا خوف. فجاء الأمر الإلهي، ليبدأ المسير نحو يثرب، حيث ستغدو المدينة المنورة، مهدًا لدولة يُشاد صرحها على التوحيد والعدل.
ولم يكن الدرب إلا حافلًا بالمخاطر، ففي جنح الظلام، خرج المصطفى ﷺ وصاحبه الأكبر أبو بكر -رضي الله عنه-، سائرَين في شعاب لم تألفها الأقدام، فرارًا من مطاردة ماكرة. هناك، في غار ثور، نسجت قدرة الخالق آياتها، عنكبوت ينسج بيتًا وحمامة تبني عشًا! معجزة حيّرت العيون، وأعمت البصائر، فكان الإيمان بالله وحده هو الزاد الذي لا ينفد، والثقة به هي الملاذ الذي لا يخيب.
وحين أشرقت طلعة النبي ﷺ على ربوع يثرب، اهتزت لها القلوب فرحًا، واصطفت الصفوف ترحيبًا. فمن مدينة تمزقها الصراعات، إلى مهد لدولة قامت على وحدانية الله وإخاء البشر. فكان أول العمل بناء المسجد النبوي الشريف؛ لم يكن مجرد محراب للصلاة، بل منبرًا للعلم، ومركزًا للحكم، وقلبًا نابضًا لمجتمع جديد. ثم كانت المؤاخاة العظيمة بين المهاجرين والأنصار، أروع صورة للتكافل الإجتماعي، حيث تذوب الفوارق وتتوحد الأرواح في سبيل الله. وما وثيقة المدينة إلا أول دستور يرسم ملامح التعايش السلمي والعدل بين كل ساكنيها.
لقد كان هذا التاريخ شاهدًا على ميلاد أمة أضاءت للعالم دروب المعرفة والعدل، وحملت لواء الحضارة تزينه قيم الرحمة والإحسان. فمن منا لا يهفو قلبه إلى تلك الأيام التي سطر فيها الأجداد بدمائهم وأرواحهم أروع قصص البطولة، وبفكرهم وعلمهم أقاموا صروحًا من النور أزهرت علومًا وفنونًا ما زال صداها يتردد في جنبات الكون؟ هذه ليست مجرد ذكريات عابرة، بل هي ينابيع من الحكمة، تروي العقول، وشعلة إلهام توقظ الهمم.
إن الهجرة النبوية ليست حكاية ماضٍ، بل هي عين تتدفق منها الدروس، ومنهل لا ينضب من العبر. منها تعلّمنا التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب، وروح التضحية والفداء التي لا تُثمّن، وكم أظهرت قدرة الإسلام على توحيد القلوب ونسج مجتمع متماسكٍ -برحمةِ الله-.
يا لجمال الإسلام وهو يتجلى في سماحة شريعته، وعدالة أحكامه، ورحمة مبادئه! ويا لعظمة هذا التاريخ وهو يفيض بالقيم السامية التي لا تُبلى، والمثل العليا التي لا تندثر! إننا نحمل في سويداء أرواحنا هذا الحب الجارف لهذا التراث التاريخي العظيم، وهذا الفخر المتجدد بانتمائنا إليه. فماضينا هو مصباح حاضرنا، ونور مستقبلنا، وبه نستلهم العزم لمواصلة المسير، وبناء غد يكون امتدادًا لمجد تليد.
ففي كل عامٍ، ومع انبلاج اليوم الأول من غرة المُحرَّم، تتجدد فينا ذكرى هذه الرحلة المباركة، لتذكرنا أن التغيير يبدأ بصدق النوايا، وأن المجد لا ينال إلا بالصبر والعزيمة، وأن النصر رفيق التضحية. فلتكن الهجرة لنا مصباحًا، ولتبقى ذكرى جمال الإسلام والتاريخ الهجري نبراسًا يهدينا إلى بناء مستقبل يستمد عظمته من ماضيه الزاهر. فلتصدح القلوب بـ”الله أكبر”، ولتُرفع الهامات اعتزازًا، وليبقى التاريخ الهجري منارة تضيء دروب الأجيال، ورمزًا لجمال لا يُفنى وعظمة لا تزول.