إن غيرة العربي على نسائه ليست مجرد شعور عابر، بل هي مفهوم متجذر في عمق الكرامة والشرف، تتوارثه الأجيال، وتصقله قيم البادية، وتحكمه تعاليم الدين. وهي ليست تملّكًا أو حرمانًا من الحرية، وإنما هي شعار للحماية والصون، وعلامة على العزة والأنفة.
تاريخيًا، ارتبطت غيرة الرجل العربي بنسائه ارتباطًا وثيقًا بالشرف العائلي والقبلي. حيث كانت المرأة، وما زالت، تعتبر رمزا للطهارة والعفة، وأي مساس بها يعد مساسًا بشرف العائلة بأسرها، ويوجب رد الفعل الذي يعيد الاعتبار. وهذه الغيرة دفعت الفرسان إلى خوض الحروب، وإلى بذل الأرواح دون تردد في سبيل الدفاع عن حرماتهم وكراماتهم.
ومع مجيء الإسلام، تعززت هذه القيمة وأطرت في إطار شرعي، فأصبحت الغيرة المحمودة جزءًا من الفضائل الأخلاقية التي حث عليها الدين. وهي غيرة تهدف إلى حماية الأعراض، وصيانة الأخلاق، والحفاظ على تماسك الأسرة والمجتمع. حيث تدفع الرجل إلى توفير الأمان لنسائه، وإلى حمايتهن من كل ما يمكن أن يسيء إليهن أو يخل بكرامتهن.
وهذه الغيرة تترجم إلى العديد من المظاهر في الحياة اليومية؛ من حرص على الحشمة والوقار، إلى رفض لكل ما يمكن أن يخدش الحياء، وصولًا إلى الوقوف سدًا منيعًا في وجه أي محاولة للمساس بقدسية المرأة ومكانتها. وهي ليست قسوة أو سيطرة، بل هي تعبير عن الحب والمسؤولية، وتأكيد على أن المرأة درة مصونة تستحق كل رعاية وحماية.
وغيرة العربي على نسائه هي جزء لا يتجزأ من هويته الثقافية والأخلاقية، وتعبر عن مفاهيم سامية للرجولة والشهامة التي طالما افتخر بها العرب عبر العصور.
وهنا، سنتحدث عن الغيرة في مراحلها الثلاث: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، العصر الحديث.
١- الغيرة في رحاب الجاهلية، تعصّب، وخوف من العار:
كانت الغيرة كجذرٍ عميقٍ في تربة النفس العربية القديمة، نبعًا تتفجر منه عزة الرجال، وسندًا تقوم عليه رفعة الأنساب. ففي غياهب الجاهلية، لم تكن المرأة سوى عرشٍ من الشرف والعرض، تُبذل دونها الأرواح، وتُساق في سبيل حمايتها أقصى الجهود، من الزوجة التي تقاسمه الحياة، إلى الأم التي هي جنتها، والابنة التي هي بضعة منه، والأخت التي هي شقيق روحه، والجارة التي هي محفوفة بحرمته. وما كان يُشعل حمية القوم إلا أن تُمَس نساءهم بسوء، فترى الجحافل تتداعى، والأموال تُنفق، كل ذلك صونًا لهن، حتى إن بلغ بهم الأمر إلى وأد البنات!؛ خشية أن يلحق بهم العار من أجلهن، وهي سُنّةٌ سنّتها بعض القبائل العربية.
ومنها، جاءت عادة وأد البنات، وهي عادة جاهلية بغيضة حرّمها الإسلام، ولكنها تعكس مدى تخوفهم من العار الذي قد يلحق بهم من البنات، حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب جريمة الوأد! فقد كان العرب في جاهليتهم يُفضلون الموت على المساس بأعراضهم. وكانت الحرب تقوم لأتفه الأسباب إذا ما مست كرامة امرأة أو تعرّض شرفها لخدش. وكانت تلك الغيرة، كبركانٍ خامدٍ يتقد لهيبًا عند المساس بالشرف!
وقد تجلت هذه الغيرة في صورٍ بهية، كتقديرهم لعفة النساء وسترهم لهن، وتعففهم عن النظر إلى الجارات، فكانوا يتباهون فخرًا بغض البصر، ويعدّونه من أسمى مراتب الشرف. فكم تغنى الشعراء، كعلقمة بن عبدة والشنفرى وعروة بن الورد، وعنترة بن شداد، والذي كانت غيرته على محبوبته عبلة مضرب الأمثال، بصفات الحياء والوفاء والستر في المرأة، وبشرف الرجل الذي يصون جاره، حتى ليُروى عن عنترة أنه كان يغض بصره ويلقي رداءه ليستر جارته إن كانت واقفة على باب بيتها. ويقول في ذلك:
“وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي
حتى يُواري جارتي مأْواها”
فكان شعرهم مرآةً صادقةً لتلك النفوس الشامخة التي ترى في صون العرض صونًا للحياة ذاتها، فكانوا يحفظون حرمة الجوار. وهذا يعكس مفهومًا عميقًا للغيرة لا يقتصر على الأقارب فقط، بل يمتد ليشمل من هم في حمايتهم أو جوارهم.
وهذه المواقف تُظهر أن الغيرة كانت قيمة مركزية في الثقافة العربية القديمة، سواء في جاهليتها أو في ظل الإسلام، وإن كان الإسلام قد هذّبها ورفعها إلى مستوى الصيانة والحماية الشرعية، بدلًا من العصبية الجاهلية.
٢- الغيرة في رحاب الإسلام، سموٌّ وكمال:
فلما أشرق نور الإسلام، لم تخبُ جذوة الغيرة، بل علت بها تعاليم الشرع الحنيف إلى آفاقٍ أسمى، وقممٍ أشمّ، بعد أن نُقِّيَت من شوائب الجاهلية وعصبيتها. فقد أقرّ الإسلام الغيرة المحمودة، وجعلها كصمام أمان للمجتمع، لا غيرة عصبية جاهلية تودي إلى العنف والظلم، بل غيرة إيمانية على محارم الله ألا تُنتهك.
ومن المواقف والأمثلة التي تُظهر غيرة العرب في صدر الإسلام:
- تأجيل الجهاد لحج المرأة: فبالرغم أن الجهاد كان من أعظم الفروض، إلا أن غيرة النبي ﷺ وأصحابه كانت عظيمة. فعندما جاء رجل يستأذن النبي ﷺ في الجهاد، وسأل عن زوجته تريد الحج، فقال له النبي ﷺ: «اذهب فحجّ مع امرأتك». وهذا الموقف يُظهر مدى حرص الإسلام على صيانة المرأة، حتى إن كان ذلك يعني تأخير أمرٍ عظيم كالجهاد، حرصًا على عدم سفرها وحدها وتعرضها للمخاطر أو الفتنة.
- غيرة سعد بن عبادة: وكان سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، سيد الخزرج، مشهورًا بشدة غيرته. فقد قال يومًا: (لو رأيتُ رَجُلًا مع امرأتي لضَربتُهُ بالسَّيفِ غيرُ مُصْفِحٍ عنه)، أي: بحد السيف لا بعرضه. فلما بلغ ذلك النبي ﷺ، قال: «أتَعجَبونَ مِن غيرَةِ سَعدٍ! فَواللَّه لأنا أَغيَرُ منه، واللَّهُ أَغيَرُ مِنِّي»، وهذا الحديث يُبرز الغيرة الحميدة التي أقرّها الإسلام، ورفعها إلى مرتبة أعلى. فيا له من فخرٍ، ويا له من شرفٍ للغيرة أن ترتبط بغيرة المولى جل وعلا، فتصبح غيرة على حدود الله وحرماته، لا على الأهواء والطبائع الجامحة!
ولتحصين المجتمع وصيانته، فرض الإسلام عددًا من الأوامر والنواهي التي تحفظ كرامة المرأة وعفتها، منها:
- ستر مفاتن النساء، فقد أمر القرآن الكريم المسلمات بستر زينتهن وضرب خمرهن على جيوبهن، ونهى عن التبرج كالجاهلية الأولى، ليصون بذلك جمال المرأة ويجعل منه كنزًا لا يُعرض إلا لأهله، فيحفظ للمرأة مكانتها ويصون المجتمع من بواعث الفتنة.
- تحريم الدخول على النساء والخلوة بهن، حيث نهى الإسلام عن دخول الرجال على النساء من غير المحارم، وحرّم الخلوة بهن، حتى بلغ الأمر بتأجيل الجهاد لحج الرجل مع امرأته إن كانت ستسافر وحدها. فما أشد حرص الإسلام على صيانة المرأة، حتى ليقدم حمايتها على عظيم فروض الدين كالجهاد!
- الحياء وغض البصر، حيث جعل الحياء جزءًا من الإيمان، وأمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج؛ لما لذلك من أثرٍ عظيم في إقامة مجتمعٍ نظيفٍ، لا تهاج فيه الشهوات، ولا تسود فيه الفتن، فيبني حصنًا من الفضيلة يحمي القلوب والنفوس.
٣- الغيرة في رحاب العصر الحديث، انحدارٌ وتلاشٍ:
أما في القرن العشرين، ومع ضعف الوازع الديني وهيمنة الثقافة الغربية، فقد بدأت مظاهر الغيرة تنحسر وتتلاشى في كثير من الأوساط العربية والإسلامية، وكأنها شمعةٌ تذوب في مهب الريح! حيث أصبحت العلاقات الاجتماعية تتسم بكثرة الاختلاط، فروّجت بعض الوسائل الإعلامية لمسلسلات ماجنة تدعو إلى التحلل والانحلال الأخلاقي، وكأنها معاول تهدم بناء الفضيلة! ثُم أن المجتمعات التي تسودها القيم الحيوانية لا يمكن أن تُعد متحضّرة، مهما بلغت من التقدم الصناعي والعلمي، وأن خط الإسلام هو تحرير الإنسان من شهواته، لا إطلاق العنان لها.
واهتزاز معايير الأخلاق في عصرنا الحاضر يستلزم اهتمامًا بالغًا وتطبيقًا واقعيًا لأخلاق الإسلام، والتي لطالما أُهملت كثيرًا. ويبقى الأمل الآن معقودًا على الأجيال المؤمنة لإصلاح هذا الانحراف وزرع الفضيلة، لتكون قدوة حية لما كان عليه سلف هذه الأمة من رفعةٍ وصيانةٍ، لعل الأيام تعود بنا إلى حيث كانت الغيرة تاجًا على رؤوس الرجال، وحصنًا منيعًا لكرامة النساء، وتعود النفوس لتتذوق حلاوة صون الأعراض، ففي ذلك حياة القلوب وسعادة الأرواح.