لمّا خلقنا الله الحكيم الخبير؛ أودع في نفس الرّجال فِطَرًا وفي نفس النّساء فِطَرًا، ووضع للرّجال تكاليفًا وللنّساء تكاليفًا، وأعطى للرّجال دورًا وللنّساء دورًا، وميّز الرّجال بحقوقٍ وميّز النّساء بأخرى؛ وكلٌّ بحسب اختباره في هذه الدنيا، كلّه اختبار لكِ ولعبوديّتك.
ولمّا قضى ربّنا ألّا نعبد إلا إيّاه؛ حرّرنا من عبودية غير خالقنا الخبير الرحيم، حرّرنا من عبادة المخلوق -مثلنا-، لا حريّةَ بحقٍّ إلّا بالتّحرُّر من كلّ الأهواء وكلّ ما يُتّبع ويُعبد من دون الله، وتمرّدنا على ذلك ليس إلّا بظلمٍ لأنفسنا وإهلاكٍ لها؛ فإن خرجنا عن عبوديّتنا لله فنحن لا محالة دخلنا في عبوديّة غيره! أفنرضى بالذّلّ والهلاك والله رسم لنا طريق السكينة في الدّنيا والنّجاة في الآخرة؟
إنّ من أهم ما يُطوى عليه سكينتكِ ونجاتكِ هو إقرارك بمخلوقيّتكِ، وتسليمكِ بعبوديتكِ لربّ الأرباب، وتيقُّنكِ من أنّ شرع الله وأحكامه الخاصّة بكِ هي الأصلح لكِ والأنسب لدوركِ، هي اختبارك في هذه الدّنيا، والعاقبة للتّقوى.
ربّنا الحكيم الخبير أورث الرّجال أمورًا، وأورث النّساء أخرى، وكلّها متكاملةٌ تحقّق استقرار الأمّة، دور الرّجال يكمّله دور النّساء؛ وهذا التّكامل وهذا التقسيم هو أحد المعينات على تحقيق الاستخلاف في الأرض والتّحرّر من عبودية غير خالقها.
كيف؟
كُلِّفَت المرأة بعبادة الله وحده، ولها تكاليف مشتركة مع الرّجال، الصّلاة، الزّكاة، الصّيام، الحج، الذّكر، قراءة القرآن، الصّدقات، أعمال الخير، وغيرها من تكاليف لعموم البشر. ثمّ كُلّفتِ المرأة بتكاليف وكُلِّفَ الرّجل بتكاليف عير متساوية؛ لكنّها عادلةٌ ومتناسبةٌ مع ما فطر الله عليه كلًّا منهما.
لقد فطر الله النّساء على حبّ الجمال، على الأنوثة، على الأمومة، فطرها على حبّ البقاء تحت كنف رجلٍ يقوم على شؤونها ويحميها ويرعاها. فُطِرَت المرأة على أن تكون سكنًا، على أن تكون حضنًا دافئًا، وتكون قلبًا رحيمًا حانيًا. وهذا من تمام تميّزها، وهذا خير معينٍ لها في مهمّتها التي أودعها الله لها؛ فقد أوكلها الله مهمّة العناية بالقائد، أبًا ثمّ زوجًا وابنًا، قلبها المحبّ المعطاء وحضنها الدافئ المتّسع هو بمثابة شحن عاطفيٌ للرّجال ومقرّ راحة وأمن، كلماتها الحانية هي بمثابة دعمٍ وتقدير.
أودعها الله رحمًا تُنجَبُ منه الرّجال، وقلبًا رؤوفًا مع حنكةٍ تربويّة لتربّي القادة، تنجب الرّجال وترعاهم، تبنيهم قادةً يعملون لدينهم وتشغلهم أمّتهم، تُبنى العزّة والقوّة، يُبنى مجد الأمّة، ويُحقّق الاستخلاف في الأرض. وكان مناط ذلك أن المرأة كُلِّفَت بالحمل والرّضاعة، كُلِّفَت بالتّربية والرّعاية، كُلِّفَت بخدمة الزّوج وطاعته، كُلِّفَت بالقرار في بيتها، كُلِّفَت بالاحتجاب عن الرّجال من غير محارمها، وغيرها من التّكاليف التي اختصّت بها المرأة.
كُلِّفَت المرأة أن تكون سكنًا للقادة، وأن تكون جنديَّ عطاءٍ في حصن الأمّة الأوّل -الأسرة-. وكُلِّف الرّجل بتكاليف أخرى، كُلِّف بالقوامة، الإنفاق على بيته وزوجه وعياله، كُلِّفَ بمراقبة دين أهل بيته، كُلِّفَ بتقويم اعوجاجهم وإصلاحهم، كُلِّف بإصلاح شؤون الأمّة والاهتمام بقضاياها، كُلِّفَ بجهاد أعداء الأمّة وصدّ العدوان عنها، وغيرها من التّكاليف التي اختصّ بها الرّجل.
كُلِفَ الرّجل أن يكون قائدًا، أن يكون جنديَّ دفاعٍ في الأمّة. ومن هذه التّكاليف المتغايرة، تتغاير حقوق كلٍّ من المرأة والرّجل كما أقرّها شرعنا الحنيف. فللمرأة حقٌّ في الإنفاق عليها والقيام على حاجاتها، لها حقٌّ في رعايتها، في تربيتها تربية إسلامية صحيحة، لها حقٌّ في برّها كأمّ والإشفاق عليها ورحمتها كزوجة، لها حقٌّ ألّا تؤذى في أبنائها، ألّا تُهان وتُظلم، ألّا تؤذى وتُضرَب -بغير نشوز ترافق مع الوعظ والهجر-، حقٌّ للمرأة أن تقرّ في بيتها تقوم على شؤونه ولا تضطرّ لتركه للتّكسُّب.
من تمام حقّ المرأة أن تتمتّع بما أعطاها الله إيّاه من مميّزات حتّى تقوم بدورها الأهمّ -بعد عبوديّتها لله-؛ وهو بناء القادة.
نور
من تمام حقّ المرأة أن تتمتّع بما أعطاها الله إيّاه من مميّزات حتّى تقوم بدورها الأهمّ -بعد عبوديّتها لله-؛ وهو بناء القادة. وللرّجال حقوقٌ مميّزة متناسبةٌ مع التّكاليف التي أُعطيها، فلمّا كان عمله خارج البيت غالبًا؛ كان حقٌّ له أن يقام على شأن بيته وعياله من طبخٍ وتنظيف ورعاية، كان حقٌّ له أن تتبعّل له زوجته حُسن التّبعّل وتقوم بإعفافه، أن يكون مُطاعًا في بيته، أن يُقدّر ويحترم، أن يكون الرأي الأخير في بيته له، أن ينعم بسكنٍ بعد ضجيج الحياة.
من تمام حقّ الرّجل أن يتمتّع بما أعطاه الله إيّاه من مميّزات حتّى يقوم بدوره الأهمّ -بعد عبوديّته لله-؛ وهو بناء الأمّة. هذا التّوزيع للأدوار والتّخصيص لبعض التّكاليف إنّما هو لأجل تحقيق التّوازن والتّكامل في المجتمع الإسلاميّ؛ فالمرأة تقوم بدورها داخل البيت والرّجل يقوم بدوره خارج البيت؛ فتكفي المرأةُ الرّجلَ صعوبة الموازنة بيت الدّاخل والخارج، ويكفيها الرّجل ذلك، ويسلّم الاثنان لما شرعه الله لهما ويشتغل كلّ واحد منهما في شأنه تاركًا للآخر شأنه ومهمّته؛ وبهذا يتحقّق الاستقرار في البيت ثمّ المجتمع الإسلاميّ، وتنتظم شؤونه، وتقوى شوكته وتصلُب، ويتحصّن من الدّخائل والنّوازل، وهذا هو سبيلُ تحقيق الاستخلاف في الأرض وعمارتها.
إنّ هذا المقال لا يصبّ في إنشاء عدوانٍ وصراع بين المرأة والرّجل، ولا لامتحان كلٍّ منهما الآخر، وما به من أمثلةٍ ليس على سبيل الحصر؛ إنّما هو مما حضرني ذكره.
ليس صراعًا
جاء هذا المقال لتبيين أنّ الأمر ليس صراعًا، وليس ساحةً للتّظلُّم والشكوى ممّا كُلِّفّ به كلّ مرء وبما كان دورًا له ومهمّةً عليه القيام بها؛ فالأمر كلّه من عند الله الحكيم الخبير، وكلّه يصبّ في العبوديّة لله، وفي التّسليم لشرع الله، وفي الإقرار بالمخلوقية والتّبعية للخالق الذي دبّر كل شيءٍ وأحاط بكلّ شيء علمًا، للخالق العظيم الذي لا يزال حكيمًا خبيرًا، له الأمر وحده، العدلُ الرّحيم.
فلترضَ إحدانا بما قسم الله لها وأورثها في هذه الدّنيا، فلترضَ عن خالقها وتُذعِن له وتستجِب لأمره، ولتعلَم أنّ لكلّ غرمٍ غُنمٌ، وأنّ الله عدلٌ. فلتعلَم إحدانا أنّ مناط اختبارها في الدّنيا أن تقوم بدورها الذي خلقها الله له، وأنّها مسؤولة عمّا كُلِّفَت به لا عمّا كُلِّف به الرّجل، ولتحفظ عينها من أن تُمَدَّ لحقٍّ ليس لها ولا يتناسب مع فطرتها، ولتخلّي قلبها من مساءلة الشّرع عن تكاليفها الخاصّة بها، ولتحلّي نفسها بالصّبر والرّضى على ما كان لها؛ ثمَّ لتُبشر برضى الخالق عنها ولتوقن بحسن الجزاء في الآخرة إن كانت قد أحسنت في اختبارها.
هذا وصلّ اللّٰهم وسلّم على محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، ما كان من صوابٍ فمن الله وما كانَ من خطأ فمن نفسي والشّيطان، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.