الكتابة هي إحساس ومشاعر بداخلنا، لا تقوى على إخراجها الحناجر؛ فتعبر عنها المحابر والسطور.
والكتابة جزء من يومنا، وكلٌ له طريقته بالكتابة. بعضهم يكتب على أغلفة الكتب، وبعضهم يجعلها في الجهاز، وبعضهم يجمعها في ورقات، وأشرف المقامات وأعلى الدرجات من كتب لينصر أمته.
نكتب لنفرغ ما بداخلنا من مشاعر، حبًّا وعتبًا، واعتذارًا، أيًّا كانت؛ فالكتابة شكل من أشكال البوح، والشعراء كانت أحد الوسائل للتعبير عن مشاعر الحب التي تخالجهم، كتابة النظم، وما كانت لتصل إلينا بهذا الإحساس وتطربنا لو كانت مشاعر مزيفة لم يعشها الكاتب. فالمشاعر الصادقة هي ما تجعل الكتابة جميلة وذات معنًى فريد، وهذا ما يميز بعض المقالات عن غيرها، فإذا كانت صادقة، المشاعر من سطرتها، ستصل للقارئ وتلامس قلبه لتحرك مشاعره، فتكون دافع له للعمل بمقتضاها.
نكتب لأننا بشر يعترينا الضعف، والحزن والحب، فنفرغه بين السطور. نكتب حين يأبى الدمع عن شرح ضيقٍ ألمَّ بالصدور.
قد تبدوا أسباب الكتابة متداخلة ببعضها كالأمواج المتدفقة؛ لكنها تبقى أمواجًا محملة بكل ما يحدث حولنا وفينا.
نكتب لنحسن أنفسنا أولًا؛ فالكتابة دواء للنفس، وبها نستطيع اكتشاف ذواتنا، وما تخبئه أفكارنا، فالتعبير عن الحالة النفسية بكلمات تصفها بشكل مباشر؛ يساهم في الوصول لأسبابها ومعالجتها. والكتابة مرآة لصاحبها؛ كلما خاض فيها فهم نفسه واتضح.
كما قال الشاعر:
إنَّ الكتابة مرآةٌ لصاحبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــها
فكلَّما خاض فيها بانَ واتَّضحـــــــــا
فاختر لنفسك مرآةً نراك بهــــــــــــــــا
إنَّ الإناء بما أودعتَهُ نَضَحـــــــــــــــــــــــــــــــا
أرباب الأقلام يشتعل رأسهم بالأفكار؛ فلا يرتاحوا من أثرها إلا بأخراجها في أعمال النثر أو النظم. ولن تملك ملكة الكتابة إلا بالاطلاع وكثرة القراءة، لتزداد حصيلتك اللغوية.
وكما قيل: (كلما كنت قارئ أفضل كنت كاتب أفضل). والكتابة مهارة تكتسب بالممارسة، مثلها مثل أي فن آخر، وكلما قرأت أكثر؛ اكتسبت براعة اللفظ، وحسن الطرح، وجمال الأسلوب، وهذه أشياء ثلاثة مهمة بالكتابة.
والعاطفة المتدفقة هي روح الكتابة، وتوصل المعاني والأحاسيس لقارئها؛ فالكتابة لا تقتصر فقط على كلمات وفوائد، هي أحاسيس وخلاصة تجارب عاشها صاحبها.
وكما قال الرافعي -رحمه الله-: (ونقل حقائق الدنيا نقلا صحيحا إلى الكتابة والشعر، هو انتزاعها من الحياة في أسلوب وإظهارها للحياة في أسلوب آخر يكون أوفى وأدق وأجمل).
ومن يقرأ للرافعي عن الحب، أو حتى مقالات مختلفة له، سيعلم ما أقصده أن على الكاتب وضع مشاعره بمقالاته، فعندما يتكلم عن الحب، يُشعر القارئ بأحاسيسه، من ألم الشوق ولوعة الفراق؛ وذلك لأنه كتبها وهو على سجيته، لم يتصنع لكتابتها، إنما ألقى مشاعره على السطور وهذبها؛ فلامست شغاف قلب القارئ، لينتقل معه لعالمه الآخر.
وهذا ليسَ بالأمر الجديد بكتابات الرافعي، فهو ينقلنا بسحر أسلوبه وبلاغة معانيه، لعالم مختلف مليء بالجمال والإبداع؛ وذلك لأنه تجول بهذا العالم بأفكاره، فاستطاع أن يصيغ الفكرة لنا وينقلنا معه، ولو أنه لم يعش بحواسه بهذا العالم، لبقينا بواقعنا.
ومما قاله هو عن نفسه بمقال “أحلام في الشارع”: (ونمت نومتي الشِّعرية). وكم أخذ من قلبي هذا المقال، المساحة الكبيرة، والمشاعر الكثيرة، ونقلني لعالم البؤساء الذي لم أعشه، لأعيش بمشاعري وأحاسيسي معهم.
ووالله إنَّ أكثر ما يميز المقال عن غيره، هو “أن يعيش الكاتب قبل الكتابة ما يكتبه”؛ فيتخيل ماذا كان سيفعل هنا، وماذا سيتكلم، وبماذا سيشعر أو يتألم. ويذهب إلى عالمه قليلًا، ثُمَّ يعود للكتابة، ثُمَّ فلينظر كم ستختلف معانيه، وتخرج بأسلوب فريد، خالٍ من التقليد. فإنَّ لِكُل إنسان أسلوب ومشاعر تختلف من واحد لآخر.
لكن الهدف الأسمى من الكتابة، أن نكتب لله ولأجل الله، “ولِتُكتَب أسمائُنا بالصحف السماوية لا الأرضية، ولنرتقي درجات بالجنة، لا بالمناصب، ولتكن أسمائنا مذكورة عندَ ملِكنا، لا في اسم يوضع على رف المكاتب”.
فإننا بكتابتنا نمضي عقدًا مع الخلود بأن لا نُنسى، ولا نفنى، ونبقى أحياء بكلماتنا وحروفنا، ليرث الله الأرض ومن عليها، ولتبقى لنا ذخرًا بعد موتنا.
وقد قالت لنا الدكتورة ليلى حمدان: (فمن أراد هيبة لكلماته؛ فليستقوي في قلبه كل ما يوجب المعية الربانية. فالحق منصور، وكل باطل مخذول حتى في نقش الحروف). وقالت: (لنكتب لتنبعث القلوب موحدة، لنكتب لتحيا النفوس بالإسلام).
وكما قيل:
ما زلتَ تكتبُ في التاريخِ مُجتَهِداً
حتَّى رأيتُكَ في التاريخِ مكتوبـــــــــــــــــــا
والكتابة كالدروع؛ تحمي الأمة الإسلامية من الأفكار والمعتقدات الفاسدة التي تتسلل إليها. ولأنه كما يوجد جهاد بالسلاح، فإننا نجاهد بالكتابة، وسلاحنا القلم.
“والكتابة ثغر، وعلى من وقف عليه بناء سور، ليحصن نفسه وأمته، من الرماح التي سيتلقاها”.